يابانوفيل، عندما كنت يابانياً

اليابانيون والخجل!

إن الخلفية الاجتماعية لليابانيين والإتفاق والانسجام الكبير الذي يحصل بين بعضهم البعض يجعل منهم يقومون بتصرفات وأساليب خاصة بهم ولم ولن يتم فهمها العميق من قبل الأجانب مهما طال الزمن. الملاحظ للشخصية اليابانية ربما أنه لاحظ أن اليابانيون مهذبون، و يصطفون بدقة أمام أبواب القطار وعلى السلم المتحرك، ولا يجيبون على أي شيء إلا عندما يشير إليهم المعلم، وترى كيف يقوم موظفي المتاجر بتحية الزبائن بشكل لطيف. فمن النظرة الأولى تقول عنهم أنهم متواضعون وخجولين. أما التواضع فهو محل تقدير واحترام وياليت بقية شعوب العالم تتعلم منه. في اعتقادي أن تواضع الياباني نابع من تأثير الطابع الياباني الذي يعتبر التواضع فضيلة حسنة. ولكني هنا أريد أن أتحدث عن قضية الخجل لدى اليابانيين. غالبًا ما يقال إن الشعب الياباني فقير في إظهار نقاط قوته وأحيانًا يكون متواضعًا بشكل مفرط. وخاصة عندما يتلقون مجاملة، فإنهم عادة ما يشعرون بالحرج وغالبًا ما يرفضون قبولها بطرق قد تبدو غير مناسبة في اللغات الأخرى. وهي من ضمن تلك العادات السلبية التي وجدتها في شخصية اليابانيين هي أنهم “خجولون جداً” ولا يمتلكون “شخصية قوية”. ولذلك، فعندما تتعامل مع شخص ياباني قد يتكون لديك إنطباع أولي بأنه شخص خائف، ضعيف وليس لديه ثقة في نفسه، ولا يملك الجُرأة على تكوين علاقة صداقة قوية معك. في الحقيقة أني أري أن هذه الصفة لابد من التخلص منها في الشخصية اليابانية الحديثة حتى تستطيع اليابان الإمساك بزمام المبادرة مرة أخرى على الصعيد العالمي. فكأني أشعر أني قادة اليابان في الستينات والسبعينات كانوا لا يتصفون بهذه الصفة وهو ما أوصل اليابان لما وصلت له، ولكن مالذي حصل للشخصية اليابانية؟ فقد أصبح تأثير “روح التعاون” وهو مايعرفها اليابانيون بـ “كيوتشوسي 協調性” مطبقاً وظاهراً في غير مكانه ووقته. وأصبح الياباني الذي يحاول امتلاك “الأنا” وهي باليابانية “جيكا 自我” عرضة للهجوم في المجتمع الياباني. وذلك لأن امتلاك “الأنا” التي لا تخضع ولاتتطابق مع ما هو مألوف لدى اليابانيين يعتبر بمثابة فعل العكس وهو “عدم التعاون” في المجتمع الياباني. في الأساس كلمة “جيكا 自我” لا يريد أي يابانى أن يتم نعته بها. هناك أمر آخر يضعه الياباني في عين اعتباره في جميع تصرفاته وهو “فهم ما يدور حوله” وهي باليابانية “كوكي او يومو 空気を読む” والترجمة الحرفية لها هي “قراءة الجو” وهي مطلوبة في جميع اليابانيين حتى يتم قبولهم في المجتمع. فلابد له ان يكون قادر على قراءة  كل ما يدور حوله ويفهم مابين السطور لما يحدث حوله من دون أن يسمع أى كلمة أو شرح، لأنه لن لم يفعل ذلك وخالف التعليمات ولم يستطع “قراءة الجو” وقام باستخدام “الأنا” ومن ثم لم يحصل على نتيجة مقبولة يقبلها المجتمع الياباني وتجعله يغفر له على تصرفه الشاذ، فسيبقى تحت المعاينة والانتقاد الشديد في جميع تصرفاته القادمة والتي ستشكل ضغط عليه لا يريده ابداً.

أذكُر أنني اكتسبت هذه الصفة “صفة الخجل والتواضع المفرط” في أول أعوام لي في اليابان، بل وكُنت أراها حينها أنها صفة إيجابية، وهي كذلك بالمُناسبة داخل المُجتمع الياباني، وقد تحتاج إلى مراعاتها وأخذها في عين الإعتبار عند تعامُلك مع اليابانيين إذا أردت اكتساب فُرص أو لِمُحاولة فهم انطباع اليابانيين تِجاهك، ولكن عندما ننظر لهذه الصفة بنظرة عالمية واسعة، سنجد أنها صفة سلبية، لأنها تترُك انطباع  وأثر سلبي عن الشخص الذي أمامك كما أوضحت سابقاً. ولكن بعد فترة قصيرة، وصلت لمرحلة من النُضج الفكري والاقتناع بأن هذه الصفة سلبية ويتحتم علي التخلُص منها، ولذلك شرعت في التوقف عن تطوير هذه الصفة في شخصيتي، وبدأت في التمسك بالشخصية العربية الإجتماعية القوية الجريئة التي لديها القُدرة على التحدّث أمام الآخرين بثقة و تكوين علاقات إجتماعية مُتماسكة معهُم.

هنا أيضاً أريد أن أتحدث عن أن سلوك الجماعة يغلب على السلوك الفردي في اليابان وأهمية “مكان الوجود 居場所”. نحن كبشر نحتاج أن نعيش بسلام وأن نشعر بالدفء الناجم عن الأمن الغذائي، والرعاية الطبية، والعلوم والتكنولوجيا، وأن يكون لدينا علاقاتنا الجيدة مع الناس. وتعتمد حياتنا اليومية على الموارد المتنوعة التي يوفرها المجتمع. من أجل الاستمتاع بهذه الأشياء، يحتاج كل فرد فينا إلى تأمين “مكان وجوده” الخاص به. وهو مبدأ يمارسه الياباني بشكل أساسي وبمنظور مختلف عن بقية شعوب العالم. في اعتقادي، قضية تأمين الـ “آي باشو 居場所” يعتبر مهمة أساسية للانخراط والتأقلم في المجتمع الياباني للأجنبي الذي يريد الاستمرار في الحياة في هذا البلد وتكوين صداقات جديدة بنفس نوع اهتماماته وهواياته. ولكن يجب أن يكون حريصًا على أن يكون مفيداً للآخرين وجديرًا بالثقة. لأنه في اليابان والمجتمع الياباني، بقائك قوياً يعتمد على عضويتك في جماعة معينة تنتمي إليها۔ فبدون الإنتساب إلى جماعة معينة لن تشعر بوجود حلفاء مطمئنين بالنسبة لك ويحمي صورتك وسمعتك. هذا بالإضافة إلى أن الياباني إذا استطاع العثور على “مكان وجود” يناسبه فإنها دلالة على النضج، حيث أن سلوك الجماعة هذا يتم تقويته داخل المدارس اليابانية وكذلك في المجتمع ككل.  وهناك مثل ياباني يقول ” ديرو كوي وا اوتار 出る杭は打たれる” وهو مثل يعني أن الشخص البارز كالتود البارز أو المرتفع عما حوله من الأوتاد سيتعرض للضرب بالمطرقة، وكذلك الشخص سيتعرض للنقد والقدح والكره والحسد الخ عندما يكون بارزاً ومتميزاً عن غيره. وهو تفسير يدعو الشخص إلى لزوم الجماعة وعدم الظهور عليهم أو الاختلاف عنهم وإلا سيكون عرضة للتوبيخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *